السبت، 25 فبراير 2012

لَـنْ تـؤمِنُوا حتَّى تحَابـُّوا

بسم الله الرحمن الرحيم
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، نَهَى عِبَادَهُ عَنْ وَسَاوِسِ الضَّغِينَةِ، وَأَمَرَهُمْ بِالتَّحَلِّي بِكُلِّ مَا يُحَـقِّقُ لَهُمُ الأَمْنَ وَالهُدُوءَ وَالسَّكِينَةَ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ بِمَا هُوَ لَهُ أَهْـلٌ مِنَ الحَمْدِ وَأُثْنِي عَلَيْهِ، وَأُومِنُ بِهِ وَأَتَوكَّلُ عَلَيْهِ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْـلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، مَنْ أَوْدَعَ فِي قَلْبِهِ مَحَبَّتَهُ، نَالَ رَحْمَةَ اللهِ وَأَدْرَكَ مَثُوبَتَهُ، القَائِلُ: (( أَحِبُّوا اللهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ بِهِ مِنْ نِعَمِهِ، وَأَحِبُّونِي لِحُبِّ اللهِ إِيَّايَ ))، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأصَحْابِهِ الذِينَ حقَّقُوا الحُبَّ فِي اللهِ تَحقِيقًا، وَزَادُوهُ بِحُسْنِ مُعَامَلاَتِهِمْ تَأْكِيدًا وَتَوثِيقًا، وَجَعَلُوهُ لَهُمْ مَنْهَجًا وَطَرِيقًا، وَرَضِيَ اللهُ عَنِ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
لِلْحَيَاةِ فَضَائِلُهَا التِي يَجِبُ أَنْ تَتَحقَّقَ، وَيلْزَمُ أَنْ تَتَأصَّلَ وَتَتأكَّدَ وَتَتوثَّقَ، إِذْ لاَ قِيمَةَ لِحَيَاةٍ لاَ فَضَائِلَ فِيهَا، حَيْثُ لاَ خَيْرَ يَفِدُ إِلَيْهَا وَيأْتِيها، وَالفَضَائِلُ فِي الإِسلاَمِ لاَ تَأْتِي مُرُورًا وَلاَ تَفِدُ عُبُورًا، بَلْ لاَ بُدَّ أَنْ تَتَهيّأَ لَهَا الفُرْصَةُ لِلثَّبَاتِ وَالاستِقْرَارِ، وَالدَّوَامِ وَالاستِمْرَارِ، وَلمَّا كَانَتِ الحَيَاةُ لاَ تَنْفَصِلُ عَنِ الأَحيَاءِ لأَنَّها مِنْهُمْ وَإِلَيْهِمْ، لَزِمَ أَنْ يَرْعَى الإِنْسَانُ هَذِهِ الفَضَائِلَ وَيُنمِّيَهَا لِتَتَكَاثَرَ وَتَتَوافَرَ، بِحَيْثُ لاَ تَخْـلُو زَاوِيَةٌ مِنَ الحَيَاةِ وَلاَ يَخْلُو مَكَانٌ إِلاَّ وَلِلْفَضَائِلِ فِيهِ مُستَقَرٌّ وَمَكَانٌ، وَبِذَلِكَ يَعِيشُ الإِنْسَانُ آمِنًا فِي حَيَاتِهِ، وَيُلاَزِمُهُ التَّوفِيقُ فِي كُلِّ تَصَرُّفَاتِهِ، ولِمَ لاَ؟ وَقَدْ أَصْبَحَ لِنَيْـلِ الفَضَائِلِ سَاعِيًا، وَغَدَا لَهَا حَافِظًا وَرَاعِيًا، فَأَمْسَى وَقَدْ سَعِدَ حَالُهُ وَهَدأَ بَالُهُ، فَإِذا أَصْبَحَ بَاشَرَ عَمَلَهُ وَأَدَّاه بِكُلِّ عِنَايَةٍ، فَبَرَّ يَوْمَهُ وَلَمْ يَعُقَّهُ، لَقَدْ حَافَظَ عَلَى الوَقْتِ؛ آخِذًا مِنْ تَقلُّبِ اللَّيْـلِ وَالنَّهَارِ عِبَرًا وَعِظَاتٍ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ((يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ))(1)، وَيَقُولُ جَلَّ شَأْنُهُ: ((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ))(2)، إِنَّ اللهَ يُبَارِكُ فِي وَقْتِ الإِنْسَانِ حِينَ يُعْمَرُ بِالفَضَائِلِ، فَإِذَا العَمَلُ الوَافِرُ الكَثِيرُ يُنْجَزُ فِي وَقْتٍ قَلِيلٍ وَزَمَنٍ قَصِيرٍ، وَيَبقَى لِلإنْسَانِ مِنَ الوَقْتِ بَعْدَ ذَلِكَ بَقِيَّةٌ؛ يُنْجِزُ فِيهَا أَعمَالاً لاَ تَقِلُّ دَرَجَةً وأَهَمِّيَّةً، وَلاَ شَيءَ كَحَمْدِ اللهِ وَذِكْرِهِ وَتَسْبِيحِهِ وَشُكْرِهِ بِالمَقَالِ أَو بإِنْجَازِ الأَعْمَالِ، لاَ شَيءَ كَهَذَا يَضَعُ البَرَكَةَ فِي اللَّيْـلِ وَالنَّهَارِ، بِمَا يَحْوِيَانِ مِنْ إِصبَاحٍ وَإِمْسَاءٍ وَعَشِيٍّ وَإِظْهَارٍ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ((فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ))(3)، وَالذِي يَتَحلَّى بالفَضَائِلَ وَيُواظِبُ عَلَيْهَا، ويُيَسِّرُ كُلَّ طَرِيقٍ لِلْوُصُولِ إِلَيْهَا؛ يُيَسِّرُ اللهُ لَهُ أُمُورَهُ، وَيُضَاعِفُ لَهُ أُجُورَهُ، يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- : (( مَنْ سَنَّ فِي الإِسلاَمِ سُنَّةً حَسَنةً فَلَهُ أَجْرُها وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيءٌ ))، أَمَّا مَنْ شَوَّهَ الفَضَائِلَ وَقَلَبَ الحَقَائِقَ وَغَيَّرَهَا وَحَرَّفَها فَلَنْ يَنَالَ إِلاَّ تَبِعَاتِ وِزْرِهِ، وَوِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ إِلَى أَنْ يَرِثَ اللهُ الأَرْضَ ومَنْ عَلَيْهَا، وَهَذَا مَا عَنَاهُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- بِقَولِهِ: (( مَنْ سَنَّ فِي الإِسلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيءٌ ))، إِنَّ الذِي يُشَوِّهُ فَضِيلَةً، أَو يُنْشِئُ رَذِيلَةً ويُوْهِمُ النَّاسَ أَنَّهَا فَضِيلَةٌ هُوَ يَكْذِبُ وَيَفْتَرِي وَيَتَحَمَّـلُ سُوءَ أَعْمَالِهِ، وَوِزْرَ ضَلاَلِهِ وَإِضْلاَلِهِ، فَيُضِيفُ أَثْقَالاً إِلَى أَثْقَالِهِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ((وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ))(4).
أيُّهَا المُسلِمُونَ :
إِنَّ مِنَ الفَضَائِلِ التِي حَثَّ الإِسلاَمُ عَلَيْهَا وَدَعَا لِعِمَارَةِ الحَيَاةِ بِهَا فَضِيلَةَ الحُبِّ للهِ وَرَسُولِهِ -صلى الله عليه وسلم- أَوَّلاً، ثُمَّ مَا يُثْمِرُهُ ذَلِكَ مِنْ حُبِّ النَّاسِ أَجْمَعِينَ، فَبِتَحَقُّقِ هَذِهِ الخَصْـلَةِ العَظِيمَةِ بَيْنَهُمْ تَحلُو الحَيَاةُ وتُزْهِرُ، وتُضِيءُ وتُسْـفِرُ، لِذَا حَثَّ الإِسلاَمُ عَلَى أَنْ يَبقَى الطَّرِيقُ أَمَامَ هَذِهِ الفَضِيلَةِ مُمَهَّدًا، نَظِيفًا مُعَبَّدًا، لِيَأْخُذَ مَجْرَاهُ دُونَ عَوَائِقَ تَعُوقُ، أَو تَسُدُّ أَمَامَهُ الطَّرِيقَ، وَإِنْ حَدَثَ أَنْ ظَهَرَتْ فِي طَرِيقِ الحُبِّ عَوِائقُ أَو سُدُودٌ، فَإِنَّ الإِسلاَمَ يَحُثُّ عَلَى تَضَافُرِ الجُهُودِ لإِزَالَةِ هَذِهِ المُعَوِّقَاتِ وَالسُّدُودِ؛ حتَّى يُواصِلَ الحُبُّ مَسِيرَهُ، وَطَرِيقُ الوُصُولِ إِلَى ذَلِكَ يَسِيرٌ، وَمِنْ ذَلِكَ تَنْحِيَةُ كُلِّ وِشَايَةٍ، وَإِغْفَالُ كُلِّ نَمِيمَةٍ، فَرُبَّ وِشَايَةٍ مُغْرِضَةٍ عَكَّرَتْ صَفْوَ العَلاَقَاتِ وَشَغَلَتِ الأَوقَاتَ، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ تَبقَى العَلاَقَاتُ مَتِينَةً قَوِيَّةً، وَسَفاسِفُ الأُمُورِ عَنِ الأَوقَاتِ بَعِيدَةً قَصِيَّةً، يَقُولُ اللهِ تَعَالَى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ))(5)، وَلَقَدْ كَانَ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- حَرِيصًا عَلَى أَنْ يَقْطَعَ الطَّرِيقَ أَمَامَ كُلِّ وِشَايَةٍ مُنْذُ البِدَايَةِ، حتَّى لاَ يَفِدَ إِلَى قَلْبِهِ النَّقِيِّ التَّقِيِّ مِنَ الأُمُورِ مَا يُعَكِّرُ ويُوغِرُ الصُّدُورَ؛ فَكَانَ يَقُولُ لأَصْحَابِهِ: ((لاَ يُبلِّغُنِي أَحَدٌ عَنْ أَصحَابِي شَيْئًا؛ فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْـكُمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ))، وَلَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ وَأَهْـلُ الفَضْـلِ مِنْ بَعْدِهِمْ يَضِنُّونَ بِأَوقَاتِهِمْ أَنْ يُضَيِّعُوهَا بِتَصْدِيقِ وِشَايَةٍ وَنَمِيمَةٍ؛ لأَنَّ الوَقْتَ عِنْدَهُمْ لَهُ قِيمَةٌ عَظِيمَةٌ، رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بنِ عَبْدِ العَزِيزِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - (( أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَذَكَرَ لَهُ عَنْ رَجُلٍ شَيْئًا؛ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: إِنْ شِئْتَ نَظَرْنَا فِي أَمْرِكَ، فَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَأَنْتَ مِنْ أَهْـلِ هَذِهِ الآيَةِ: ((إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا))(6)، وَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَأَنْتَ مِنْ أَهْـلِ هَذِهِ الآيَةِ: ((هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ))(7)، وَإِنْ شِئْتَ عَفَوْنَا عَنْكَ، فَقَالَ: العَفْوَ يَا أَمِيرَ المُؤمِنِينَ؛ لاَ أَعُودُ إِلَى ذَلِكَ أَبَدًا ))، إِنَّ كُلَّ وِشَايَةٍ يَقْصِدُ صَاحِبُهَا مِنْ وَرَائِهَا النَّيْـلَ مِنْ حُبِّ امْرِئٍ لأَخِيهِ تُعَدُّ خِسَّةً وَدَنَاءَةً، يَجِبُ أَنْ يَزْدَرِيَهَا الإِنْسَانُ وَيَطْرَحَها وَرَاءَهُ، فالحُبُّ رَصِيدٌ يَجِبُ الحِفَاظُ عَلَيْهِ وَعَدَمُ المِسَاسِ بِهِ، بَلْ يَجِبُ العَمَلُ عَلَى زِيَادَتِهِ وَإِنْمَائِهِ، وَتَغْذِيَتِهِ وَإِرْوَائِهِ، وَإِذَا حَدَثَ مَا يُذْبِلُ الحُبَّ ويُعَكِّرُ صَفْوَهُ، مِنْ عَثْرَةٍ بِاللِّسَانِ وَهَفْوَةٍ؛ فَلْيُسرِعْ كُلُّ مُحِبٍّ لِلْفَضَائِلِ إِلَى بَذْلِ كُلِّ مَا يَستَطِيعُ لِلْوُصُولِ إِلَى الإِصْلاَحِ، سَائِلاً اللهَ التَّوفِيقَ وَالنَّجَاحَ، وَسيُعِينُهُ اللهُ إِنْ شَاءَ عَلَى تَحقِيقِ مَا أَرَادَ وَإِنْجَازِ مَا شَاءَ، وَإِنَّ حُسْنَ النِّيَّةِ وَسَلاَمَةَ الطَّوِيَّةِ مِنَ المُتَهَاجِرَينِ وَالمُتَدَابِرَينِ وَمِمَّنْ تَدَخَّلَ لِلإِصلاَحِ بَيْنَهُمَا، كُلُّ هَذِهِ أُمُورٌ جَدِيرَةٌ بِالاهتِمَامِ؛ لِيَعُودَ الحُبُّ إِلَى صَفَائِهِ المَعْهُودِ، لأَنَّهِ فِي الأَصْـلِ ثَابِتٌ وَمَوْجُودٌ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ مَا يُخْشَى وُقُوعُهُ مِنْ شِقَاقٍ بَيْنَ زَوْجَيْنِ: ((وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا))(8)، وَمَا يَنْطَبِقُ عَلَى الإِصْـلاَحِ بَيْنَ زَوْجَيْنِ يَنْطَبِقُ عَلَى غَيْرِهِمَا مِمَّنْ تَبَاعَدا بَعْدَ قُرْبٍ، وَتَبَاغَضَا بَعْدَ حُبٍّ، وَلَقَد تَّكفَّلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِكُلِّ مَنْ أَسْهَمَ فِي الإِصْـلاَحِ بَيْنَ مُتَخَاصِمَيْنِ وَالوِصَالِ بَيْنَ مُتَهَاجِرَيْنِ أَنْ يَشْمَلَهُ بِرَحْمَتِهِ، وَرِضْوَانِهِ وَمَثُوبَتِهِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ))(9)، كَمَا رَفَعَ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ قَدْرِ هَذَا العَمَلِ الذِي أَعَادَ الحُبَّ إِلَى نَقَائِهِ، وَرَوْنَقِهِ وَصَفَائِهِ؛ فَجَعَلَ لَهُ مَكَانَةً تُضَاهِي بَلْ تَفُوقُ دَرَجَةَ أَعْظَمِ العِبَادَاتِ، مِنْ صِيَامٍ وَصَلاَةٍ وَصَدَقَاتٍ، يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- : (( أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيامِ وَالصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: إِصْـلاَحُ ذَاتِ البَيْنِ؛ فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ البَيْنِ هِيَ الحَالِقَةُ، لاَ أَقُولُ تَحْـلِقُ الشَّعْرَ وَلكِنْ تَحْـلِقُ الدِّينَ))، وَحتَّى تَبقَى عَلاَقَاتُ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ غَضَّةً طَرِيَّةً، رَيَّا نَدِِيَّةً؛ نَحَّى الإِسلاَمُ عَنْ طَرِيقِ المَحَبَّةِ كُلَّ آفَةٍ تُصِيبُ بَهَاءَها وَتَحْجُبُ ضِيَاءَهَا، وَمِنْ هَذِهِ الآفَاتِ ظَنُّ السَّوءِ بِالنَّاسِ، مِنْ غَيْرِ بَيِّـنَةٍ وَعَلَى غَيْرِ أَسَاسٍ، إِنَّها آفَةٌ جَدِيرَةٌ بِالاستِئْصَالِ؛ لأَنَّ استِمْرَارَها يُؤَدِّي إِلَى وَأْدِ الحُبِّ وَقَبْرِ الوِصَالِ، يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- : ((إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ))، وَيَقُولُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((لاَ تَظُنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَخِيكَ إِلاَّ خَيْرًا وَأَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الخَيْرِ مَحْمَلاً))، وَمِنْ هَذِهِ الآفَاتِ التِي تُدَمِّرُ فَضِيلَةَ الحُبِّ بَيْنَ النَّاسِ التَّجَسُّسُ وَالغِيبَةُ، لِذَا حَرَّمَ الإِسلاَمُ هَذِهِ الآفَاتِ فِي آيَةٍ كَرِيمَةٍ مِنْ سُورَةِ الحُجُراتِ؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ))(10).
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، وَاعلَمُوا أَنَّ الحَيَاةَ هَادِئَةٌ نَاعِمَةٌ، مَا دَامَتْ وَسَائِلُ الحُبِّ قَائِمَةً مُستَمِرَّةً دَائِمَةً.
أقُولُ قَوْلي هَذَا وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
*** *** ***
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
لَقَدْ حَذَّرَ الإِسلاَمُ مِنْ آفَاتٍ لَو بَقِيَتْ وَاستَمَرَّتْ كَانَ أَثَرُهَا فِي الحُبِّ خَطِيرًا؛ فَهِيَ تَقْضِي عَلَى المَحَبَّةِ وتُدَمِّرُها تَدْمِيرًا، يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- : ((لاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا، وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضِ، وَكُونُوا -عِبَادَ اللهِ- إِخْوَانًا))، إِنَّ الحُبَّ إِذَا استَقَرَّ فِي قَلْبِ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الأُسْرَةِ وَالمُجتَمَعِ؛ تَفَرَّغَ كُلُّ إِنْسَانٍ لأَدَاءِ عَمَلِهِ أَدَاءً مُتْـقَنًا مُحْـكَمًا بِكُلِّ هِمَّةٍ وَعَزِيمَةٍ، حَيْثُ النُّفُوسُ هَادِئَةٌ وَالقُلُوبُ سَلِيمَةٌ، فَاختِفَاءُ البَغْضَاءِ وَالضَّغِينَةِ يُسَاوِي حَتْمًا هُدُوءًا وَسَكِينَةً، وَالنُّفُوسُ إِذَا هَدَأَتْ وَسَكَنَتْ بَاشَرَ الإِنْسَانُ مَا وُكِلَ إِلَيْهِ مِنْ عَمَلٍ بِنَشَاطٍ وقُوَّةٍ. إِنَّ الحَيَاةَ فِي ظِلاَلِ الحُبِّ نَاضِرَةٌ زَاهِرَةٌ، وَالأَوقَاتَ بِحُسْنِ العَمَلِ وَمكَارِمِ الأَخْلاَقِ عَامِرَةٌ، وَلِرِفْعَةِ مَكَانَةِ الحُبِّ وَسُمُوِّ قَدْرِهِ وَتَعْظِيمِ أَمْرِهِ جَعَلَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ نَعِيمًا يَتَلذَّذُ بِهِ أَهْـلُ الجَنَّةِ فِي الجَنَّةِ، حَيْثُ الغِلُّ مِنَ القُلُوبِ مَنْزُوعٌ، وَالبُغْضُ فِيهَا مَجْذُوذٌ وَمَقْطُوعٌ، وَالأَمْنُ وَالسَّلاَمُ فِيهَا شِعَارٌ دَائِمٌ مَرْفُوعٌ، وَأَلْسِنَةُ أَهْـلِ الجَنَّةِ فِي الجَنَّةِ تَلْهَجُ بِحَمْدِ اللهِ وَشُكْرِهِ، وَتَسبِيحِهِ وَذِكْرِهِ، عَلَى أَنْ وَفَّقَهُمُ اللهُ لِهَذَا وَهَدَاهُمْ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ((وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ))(11)، وَقَدَ نُزِعَ الغِلُّ مِنْ قُلُوبِ أَهْـلِ الجَنَّةِ قَبْـلَ دُخُولِهَا، لأَنَّ نَعِيمَها لاَ يَنَالُهُ حَقُودٌ، وَلاَ مُبْغِضٌ وَلاَ حَسُودٌ، يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- : ((لاَ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حتَّى تُؤْمِنُوا، وَلاَ تُؤْمِنُوا حتَّى تَحَابُّوا، أَوَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْـتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ)).
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، وَاعلَمُوا أَنَّ مَنْ حَرَمَ نَفْسَهُ فِي دُنْيَاهُ مِنَ الحُبِّ فِي اللهِ حُرِمَ مِنْهُ فِي أُخْرَاهُ، فَكَيْفَ يَحْرِمُ إِنْسَانٌ نَفْسَهُ هَذَا الخَيْرَ العَمِيمَ؟ إِنَّهُ تَصَرُّفٌ غَيْرُ سَلِيمٍ وَلاَ مُستَقِيمٍ.
هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: (( إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا )) (12).
اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ وسَلّمْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجْمِعْ كَلِمَتَهُمْ عَلَى الحَقِّ، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظِّالِمِينَ، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعِبادِكَ أَجْمَعِينَ.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
عِبَادَ اللهِ :
(( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ )).
(1) سورة النور/ 44.
(2) سورة آل عمران/ 190.
(3) سورة الروم/ 17-18.
(4) سورة العنكبوت/ 13.
(5) سورة الحجرات/ 6.
(6) سورة الحجرات / 6.
(7) سورة القلم/ 11.
(8) سورة النساء/ 35.
(9) سورة الحجرات/ 10.
(10) سورة الحجرات / 12.
(11) سورة الأعراف/ 43.
(12) سورة الأحزاب / 56 .

حُسْنُ الظَّنِّ بِاللهِ

الْحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ حُسْنَ الظَّنِّ بِهِ مِنَ الإِيْمَانِ، وَالتَّمَنِّيَ عَلَيْهِ مِنْ دَلائِلِ العَجْـزِ وَالخِذْلانِ، وَأَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، سُبْحَانَهُ يُنْزِلُ بِرَحْمَتِهِ السَّـكِينَةَ عَلَى المُؤْمِنِينَ، وَيُقَوِّي بِاليَقِينِ عَزَائِمَ المُتَّقِينَ، وَيُبَارِكُ جُهْدَ المُخْلِصِينَ الجَادِّينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ المُصْطَفَى، وَرَسُولُهُ المُؤَيَّدُ المُجْـتَبَى، أَرْبَطُ الخَلْقِ جَأْشًا عِنْدَ الشَّدَائِدِ، وَأَعْظَمُهُمْ ثِقَةً فِي اللهِ مَهْمَا وَاجَهَ وَكَابَدَ، r وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الأَخْيَارِ، وَعَلَى أَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ البُرُوزِ للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ، فَاتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ -، فَإِنَّ تَقْوَى اللهِ أَفْضَلُ الزَّادِ فِي الدَّارَيْنِ، وَسَبِيلُ الفَوْزِ بِالسَّعَادَتَيْنِ: سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَسَعَادَةِ الآخِرَةِ ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[([1])، وَاعلَمُوا - رَحِمَكُمُ اللهُ - أَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِاللهِ، وَالثِّقَةَ فِي عَوْنِهِ جَلَّ فِي عُلاهُ، دَلِيلُ الإِيمَانِ وَمُقْتَضَاهُ، وَلِذَلِكَ أَوْصَى رَسُولُ اللهِ r بِالاستِمْرَارِ عَلَيْهِ إِلَى آخِرِ رَمَقٍ فِي الحَيَاةِ، فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ  - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ r أَنَّهُ قَالَ: ((لا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللهِ))، وَحُسْنُ الظَّنِّ بِاللهِ مَنْهَجُ الأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، يُتَرْجِمُونَهُ سُلُوكًا فِي جَمِيعِ تَصَرُّفَاتِهِمْ، قَالَ الحَقُّ تَعَالَى عَنْ مُوسَى     -عَلَيْهِ السَّلامُ - وَقَوْمِهِ: ] فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [([2])، وَفِي سِيرَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ r صُوَرٌ نَاصِعَةٌ مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ بِاللهِ وَالثِّقَةِ بِهِ، فَبَيْـنَمَا رَسُولُ اللهِ r فِي الغَارِ وَالكُفَّارُ عَلَى بَابِهِ قَالَ أَبُوْ بَكْرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: يَا رَسُولَ اللهِ، وَاللهِ لَوْ نَظَرَ أَحَدُهُمْ تَحْـتَ قَدَمِهِ لَرَآنَا، فَقَالَ r بِلِسَانِ الوَاثِقِ بِاللهِ: ((مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا؟! لا تَحْـزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا))، وَيُسَجِّـلُ القُرآنُ هَذَا المَوقِفَ، قَالَ تَعَالَى: ] إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ([3]).
   أَيُّهَا المُسلِمُونَ:
   إِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِاللهِ لَيْسَ شَقْشَقَةً بِاللِّسَانِ، وَلا أَمَانِيَّ فَارِغَةً تَخْتَلِجُ فِي الجَنَانِ، بَلْ هُوَ اعتِقَادٌ جَازِمٌ صَادِقٌ، وَيَقِينٌ ثَابِتٌ فِي اللهِ تَعَالَى، يُثْمِرُ سُلُوكًا مُستَقِيمًا فِي الحَيَاةِ، إِنَّهُ حَقِيقَةٌ تُتَرْجَمُ فِي مَظَاهِرَ مُخْتَلِفَةٍ وَجَوَانِبَ مُتَعَدِّدَةٍ، فَمِنْ مَظَاهِرِ حُسْنِ الظَّنِّ بِاللهِ تَعَالَى إِثْبَاتُ صِفَاتِ الجَمَالِ وَالجَلالِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَحَمْـلُ أَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ جَلَّ جَلالُهُ عَلَى المَحَامِلِ الحَسَنَةِ، فَقَدْ عَلَّمَنَا رَبُّنَا سُبْحَانَهُ أَنْ نَرُدَّ كُلَّ خَيْرٍ إِلَيْهِ، وَإِذَا حَدَثَ ضُرٌّ رَدَدْنَاهُ إِلَى تَقْصِيرِنَا، فَقَالَ جَلَّ شَأْنُهُ لِنَبِيِّهِ r : ] مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [4])، وَالمُؤْمِنُ يُوقِنُ بِأَنَّ اللهَ لَنْ يَتْرُكَهُ وَلَنْ يُضَيِّعَهُ، حَتَّى لَوْ تَخَلَّى عَنْهُ كُلُّ مَنْ فِي الأَرْضِ، فَثِـقَتُهُ بِمَا عِنْدَ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ ثِقَتِهِ بِمَا عِنْدَ النَّاسِ، فَلا حَوْلَ لأَيِّ قُوَّةٍ فِي العَالَمِ وَلا طَوْلَ لَهَا إِلاَّ بَعْدَ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ، قَالَ تَعَالَى: ] وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا [([5])، وَالَّذِي يُحْسِنُ الظَّنَّ بِرَبِّهِ تَرَاهُ دَائِمًا هَادِئَ البَالِ سَاكِنَ النَّفْسِ مَهْمَا ادْلَهَمَّتِ الخُطُوبُ، فَهُوَ يَعلَمُ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ، وَلِسَانُ حَالِهِ: ] قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ[([6])، إِنَّهُ يُوقِنُ أَنَّ مَا نَزَلَ بِهِ مِنْ بَلاءٍِ لَمْ يَكُنْ إِلاَّ خَيْرًا لَهُ؛ يَرفَعُ اللهُ بِهِ الدَّرَجَاتِ فِي الآخِرَةِ أَوْ يَدفَعُ عَنْهُ شَرًّا أَعْظَمَ مِمَّا ابتَلاهُ بِهِ، أَوْ يُعَوِّضُهُ خَيْرًا مِمَّا فَقَدَ فِي عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللهِ r قَالَ: ((مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ)) أَيْ: يَبْـتَلِيهِ بِالمَصَائِبِ لِيُثِيبَهُ، وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللهِ r قَالَ: ((إِنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلاءِ، وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابتَلاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ)).
      أَيُّهَا المُسلِمُونَ:
    إِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِاللهِ تَعَالَى يَعُودُ عَلَى المُسلِمِ بِفَوَائِدَ عَظِيمَةٍ، وَمِنَحٍ إِلَهِيَّةٍ كَرِيمَةٍ، فِي نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ، وَمُجتَمَعِهِ وَمَالِهِ، فَهُوَ يَغْرِسُ فِي قَلْبِهِ مَحَبَّةَ اللهِ وَتَعْـظِيمَهُ، وَالخَوفَ وَالرَّجَاءَ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، وَالإِنَابَةَ إِلَيْهِ وَالتَوَكُّلَ عَلَيْهِ وَالاعتِصَامَ بِهِ، فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى مَزِيدِ العَمَلِ؛ لإِيقَانِهِ بِأَنَّ عَمَلَهُ لَنْ يَضِيعَ، ثِقَةً بِوَعْدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ إِذْ قَالَ: ] إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [([7])، وَالوَاثِقُ بِاللهِ يُعَامِلُ أَفْرَادَ أُسْرَتِهِ وَمُجتَمَعِهِ بِالبِرِّ وَالفَضْـلِ وَالإِحْسَانِ، وَيَصْـفَحُ عَمَّا يَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنَ تَقْصِيرٍ وَهِجْرَانٍ؛ طَمَعًا فِي عَفْوِ اللهِ وَمَغْفِرَتِهِ، وَهَرَبًا مِنْ غَضَبِهِ وَعُقُوبَتِهِ، وَلْنَتَأَمَّـلْ - عِبَادَ اللهِ - قِصَّةَ نُزُولِ قَولِهِ تَعَالَى: ] وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[([8])، فَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمَّا مَنَعَ العَطَاءَ عَنْ قَرِيبِهِ مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ بِسَبَبِ مَوقِفِهِ مِنْ حَادِثَةِ الإِفْكِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ تُذَكِّرُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ وَتُذَكِّرُ المُؤْمِنِينَ، بِأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا يُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ، فلْيَعْـفُوا عَمَّنْ أَخْطَأَ وأَسَاءَ إِلَيْهِمْ، فَتَأْتِي استِجَابَةُ النُّفُوسِ الزَّكِيَّةِ، الَّتِي تَطَهَّرَتْ بِنُورِ اللهِ، وَتَمَكَّنَ مِنْهَا حُسْنُ الظَّنِّ فِي عَفْوِهِ وَرِضَاهُ، فَمَا يَكَادُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يَسْمَعُ دَعْوَةَ رَبِّهِ إِلَى العَفْوِ، وَمَا يَكَادُ يَلْمِسُ وِجْدَانَهُ ذَلِكَ السُّؤَالُ المُوْحِي: ]           [، حَتَّى يَرتَفِعَ عَنِ الآلامِ، وَتَشِفَّ رُوحُهُ وَتُشْرِقَ بِنُورِ اللهِ، لِيُلَبِّيَ دَاعِيَ اللهِ فِي طُمَأْنِينَةٍ وَصِدْقٍ وَيَقُولَ: ((بَلَى وَاللهِ إِنِّي لأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لِي))؛ وَيُعِيدَ إِلَى قَرِيبِهِ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُهَا عَلَيْهِ، وَيَحلِفَ: وَاللهِ لا أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا.
      أَيُّهَا المُسلِمُونَ:
  لَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِاللهِ يَقْتَضِي الاعتِمَادَ عَلَى سَعَةِ عَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ مَعَ تَعْطِيلِ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، فَاجْـتَرَأَ عَلَى المَعَاصِي، وَاتَّبَعَ هَوَى النَّفْسِ الخَامِلَةِ، الَّتِي لَمْ تَأْلَفِ الجِدَّ وَالاجتِهَادَ، وَلَمْ تُؤْمِنْ بِمَبْدَأِ التَّهَيُّـؤِ وَالاستِعْدَادِ، قَالَ تَعَالَى: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرين[([9])، إِنَّ الفَرْقَ بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالتَّمَنِّي أَنَّ الرَّجَاءَ يُصَاحِبُهُ بَذْلُ الجُهْدِ فِي الإِتْيَانِ بِأَسْبَابِ الظَّفَرِ وَالفَوْزِ، وَالتَّمَنِّيَ حَدِيثٌ فِي النَّفْسِ بِحُصُولِ النَّجَاةِ مَعَ تَعْطِيلِ الأَسْبَابِ المُوصِلَةِ إِلَيْهَا، عَلَى أَنَّ القُرآنَ حَصَرَ الأَمْنَ وَالطُّمَأْنِينَةَ، وَقَصَرَ النَّجَاةَ وَالسَّـكِينَةَ فِي عِبَادِ اللهِ المُؤْمِنِينَ، قَالَ تَعَالَى: ] إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[([10])، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: ] الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ[([11])، وَأَمَّا الأَمَانِيُّ فَإِنَّهَا رُؤُوسُ أَمْوَالِ المُفْلِسِينَ، تَصْدُرُ مِنْ قَلْبٍ تَزَاحَمَتْ عَلَيْهِ وَسَاوِسُ النَّفْسِ فَأَظْلَمَ مِنْ دُخَانِهَا، وَاستَمْرَأَ حُبَّ شَهَوَاتِهَا، وَكُلَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ تَمَنَّى حُسْنَ العَاقِبَةِ وَالنَّجَاةَ، وَأَحَالَتْهُ إِلَى العَفْوِ وَالمَغْفِرَةِ وَالفَضْـلِ، وَمَا هِيَ إِلاَّ وَسَاوِسُ وَأَمَانِيُّ بَاطِلَةٌ، قَالَ تَعَالَى: ] لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا  [([12])، وَقَدْ جَاءَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ] لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا [([13]) بَلَغَتْ مِنَ المُسلِمِينَ مَبْـلَغًا شَدِيدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ r : ((قَارِبُوا وَسَدِّدُوا؛ فَفِي كُلِّ مَا يُصَابُ بِهِ المُسلِمُ كَفَّارَةٌ، حَتَّى الشَّوكَةِ يُشَاكُهَا))، لَقَدْ أَمَرَهُمْ r بِالمُقَارَبَةِ وَالتَّسْدِيدِ، وَالعَمَلِ الصَّالِحِ الرَّشِيدِ، لِلنَّجَاةِ مِنَ العَذَابِ الشَّدِيدِ، وَالظَّفَرِ بِالسَّعَادَةِ يَوْمَ الوَعِيدِ، وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ r : ((الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ، وَالعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللهِ الأَمَانِيَّ)).
  فَاتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ -، وَأَحْسِنُوا الظَّنَّ بِرَبِّـكُمْ، بِإِصْلاحِ أَعْمَالِكُمْ، وَإِخْلاصِ جِدِّكُمْ وَاجْـتِهَادِكُمْ؛ تَسْعَدُوا فِي حَيَاتِكُمْ، وَتَخْلُدُوا فِي الجَنَّةِ بَعْدَ مَمَاتِكُمْ.
      أقُولُ قَوْلي هَذَا   وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ   لي وَلَكُمْ،   فَاسْتغْفِرُوهُ   يَغْفِرْ لَكُمْ    إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ،  وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ   إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.


([1]) سورة الحديد / 28 .
([2]) سورة الشعراء / 61.
([3]) سورة التوبة / 40 .
([4]) سورة النساء / 79 .
([5]) سورة الجن / 13 .
([6]) سورة التوبة / 51 .
([7]) سورة الكهف / 30 .
([8]) سورة النور / 22.
([9]) سورة فصلت / 22-23.
([10]) سورة البقرة / 218 .
([11]) سورة الأنعام / 82 .
([12]) سورة النساء / 123 .
([13]) سورة النساء  / 123 .

احْتِرامُ الكَبِير


احْتِرامُ الكَبِيرِ
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَقَدَّرَ فَهَدَى، وَجَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا، سُبْحَانَهُ خَلَقَ الإِنْسَانَ بِقُدْرَتِهِ، وَأَسْبَغَ عَلَيْهِ فَضْـلَهُ وَوَاسِعَ رَحْمَتِهِ، وَحَاطَهُ بِشَرِيعَةٍ تَحْـفَظُ كَرَامَتَهُ، وَتَصُونُ قَدْرَهُ فِي جَمِيعِ مَرَاحِلِ حَيَاتِهِ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ عَلَى جَزِيلِ نِعَمِهِ، وَعَظِيمِ مَنِّهِ وَكَرَمِهِ، وَأَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، خَلَقَ الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بِالشَّرِيعَةِ السَّمْحَةِ وَالطَّرِيقِ القَوِيمِ، r وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الغُرِّ المَيَامِينِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ؛ :َاعلَمُوا - وَفَّقَكُمُ اللهُ - أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ خَلْقَ الإِنْسَانِ يَمُرُّ بِأَطْوَارٍ ثَلاثَةٍ: مَرْحَلَةِ الضَّعْـفِ وَهِيَ مَرْحَلَةُ الطُّفُولَةِ وَالصِّغَرِ، وَفِيهَا يَبْدُو الإِنْسَانُ مُحْـتَاجًا إِلَى الرِّعَايَةِ وَالعِنَايَةِ، وَيَبْـذُلُ وَالِدَاهُ جُهُودًا كَبِيرَةً فِي مُسَاعَدَتِهِ وَالحِفَاظِ عَلَيْهِ، ثُمَّ مَرْحَلَةِ الشَّبَابِ وَهِيَ مَرْحَلَةُ القُوَّةِ وَالنَّشَاطِ وَالهِمَّـةِ وَالعَمَلِ الكَادِحِ وَالحَيَاةِ النَّاهِضَةِ، وَفِي هَذِهِ المَرْحَلَةِ يُعَدُّ الإِنْسَانُ سَاعِدَ الحَيَاةِ القَوِيَّ وَالمَسْؤُولَ عَنْ تَقَدُّمِهَا أَوْ تَأَخُّرِهَا، إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَى مَرْحَلَةِ الضَّعْـفِ وَالشَّيْخُوخَةِ، وَفِي هَذِهِ المَرْحَلَةِ تَتَرَاجَعُ قُوَّةُ الإِنْسَانِ، وَيَنْحَسِرُ عَطَاؤُهُ وَنَشَاطُهُ، وَتَتَوَقَّفُ الكَثِيرُ مِنْ أَعْمَالِهِ وَحَرَكَاتِهِ حَتَّى يَعُودَ مُحْـتَاجًا مَرَّةً أُخْرَى إِلَى المُسَاعَدَةِ وَالعَوْنِ، وَالعَطْفِ وَالرَّحْمَةِ، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ المَرَاحِلَ الثَّلاثَ بِقَولِهِ: ]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ[([2])، وَقَدْ حَرَصَ الإِسْلامُ عَلَى تَنْظِيمِ هَذِهِ المَرَاحِلِ الثَّلاثِ بِالأَخْلاقِ العَالِيَةِ، وَإِكْرَامِهَا بِالآدَابِ الحَسَنَةِ وَالصِّـفَاتِ الجَمِيلَةِ؛ حَتَّى يَعِيشَ هَذَا الإِنْسَانُ مُكَرَّمًا فِي صِغَرِهِ وَقُوَّتِهِ وَكِبَرِهِ؛ مِصْدَاقًا لِقَولِهِ تَعَالَى: ] وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا[([3])، وَكَرَامَةُ الإِنْسَانِ وَاحْـتِرَامُهُ وَمَنْزِلَتُهُ مَحْـفُوظَةٌ فِي الإِسْلامِ مِنْ خِلالِ جُمْـلَةٍ مِنَ التَّشْرِيعَاتِ وَالآدَابِ وَالأَخْلاقِ، يُطَبِّـقُهَا الفَرْدُ وَالمُجْـتَمَعُ، وَالدَّولَةُ وَالمُؤَسَّسَةُ أَيًّا كَانَتْ، وَأَيُّ خَلَلِ فِي هَذَا التَّطْبِيقِ فَإِنَّ الحَيَاةَ سَوفَ تَتَحَوَّلُ إِلى فَوْضَى، وَتَهْبِطُ كَرَامَةُ الإِنْسَانِ وَتُمْـتَهَنُ، حَتَّى يَحتَقِرَ الحَيَاةَ وَالعَيْـشَ.
وَإِذَا كَانَ الصَّغِيرُ يَجِدُ مِنْ وَالِدَيْهِ وَالمُجتَمَعِ حَنَانًا فِطْرِيًّا وَعَاطِفَةً طَبِيعِيَّةً، وَإِذَا كَانَ الشَّبَابُ وَالأَقْوِيَاءُ يَنْهَضُونَ بِأَعْبَائِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَيَحتَرِمُهُمُ النَّاسُ لِمَكَانَتِهِمْ وَدَوْرِهِمْ فِي الحَيَاةِ؛ فَإِنَّ كِبَارَ السِّنِّ قَدْ لا يَجِدُونَ الاهتِمَامَ وَالعِنَايَةَ الكَافِيَةَ، وَلِذَلِكَ سَارَعَ الإِسْلامُ فِي تَوجِيهِ النَّاسِ إِلَى ضَرُورَةِ احتِرَامِ الكَبِيرِ وَإِعْطَائِهِ الكَرَامَةَ اللائِقَةَ وَالمَنْزِلَةَ الشَّرِيفَةَ، وَحَرَّمَ إِيذَاءَهُ أَوِ الاستِعْلاءَ عَلَيْهِ، فَالنَّبِيُّ r يَقُولُ: ((لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا))، غَيْرَ أَنَّ النَّاسَ مَعَ غِيَابِ التَّوْجِيهِ وَالإِرشَادِ وَالتَّرْبِيَةِ كَثِيرًا مَا يَجْهَلُونَ حُقُوقَ الكِبَارِ سَوَاءً كَانُوا مِنَ أَقَارِبِهِمْ أَمْ غَيْرِهِمْ، وَلِذَلِكَ لا بُدَّ مِنَ التَّذْكِيرِ المُستَمِرِّ بِقَوَاعِدِ السُّلُوكِ وَالآدَابِ وَصُوَرِ الاحتِرَامِ وَالتَّقْدِيرِ الَّتِي أَمَرَ الإِسْلامُ بِهَا فِي حَقِّ كِبَارِ السِّنِّ.
أَخِي : 
إِنَّ الَّذِي يَكْبُرُكَ فِي السِّنِّ أَنْتَ مُطَالَبٌ أَنْ تُقَدِّمَ لَهُ الاحتِرَامَ وَالتَّقْدِيرَ مِنْ مُنْطَلَقِ أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْكَ وَأَسَنُّ، وَلا يَمْـنَعُ خِلافُكَ مَعَهُ فِي الرَّأْيِ أَنْ تَحتَرِمَهُ وَتُقَدِّرَهُ فَذَلِكَ شَيْءٌ يَخْتَلِفُ، فَالرَّأْيُ شَيْءٌ وَالمُعَامَلَةُ شَيْءٌ آخَرُ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ r : ((مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا لِسِنِّهِ إِلاَّ قَيَّضَ اللهُ لَهُ مَنْ يُكْرِمُهُ عِنْدَ سِنِّهِ))، وَذِكْرُ " الشَّبَابِ " فِي الحَدِيثِ فِيهِ دَلالَةٌ عَلَى أَنَّ الشَّابَّ قَدْ يَصِلُ إِلَى لَحْـظَةٍ يَعْـتَدُّ فِيهَا بِقُوَّتِهِ، وَيَتَفَاخَرُ بِنَشَاطِهِ وَحَيَوِيَّـتِهِ، فَيَدفَعُهُ ذَلِكَ إِلَى انْتِقَاصِ الكَبِيرِ أَوْ إِسَاءَةِ الأَدَبِ فِي التَّعَامُلِ مَعَهُ، وَالحَدِيثُ يُذَكِّرُ الشَّابَّ بِأَنَّ المَرْحَلَةَ الَّتِي وَصَلَ إِلَيْهَا الكَبِيرُ سَوْفَ يَصِلُ إِلَيْهَا هُوَ أَيْضًا؛ فَيَحتَاجُ عِنْدَئِذٍ إِلَى مَنْ يَمُدُّ لَهُ يَدَ العَوْنِ، وَيَحتَرِمُهُ لِكِبَرِ سِنِّهِ وَخِبْرَتِهِ فِي الحَيَاةِ، سَاعَتَهَا سَتَكُونُ المُعَامَلَةُ الحَسَنَةُ الَّتِي كَانَتْ مَعَ الكَبِيرِ أَيَّامَ الشَّبَابِ مُكْرِمَةً لِهَذَا الإِنْسَانِ فِي كِبَرِهِ؛ فَالجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ العَمَلِ، وَلَعَلَّ أَعْظَمَ صُورَةٍ يَرْسُمُهَا القُرآنُ الكَرِيمُ فِي الرَّحْمَةِ بِالكَبِيرِ، هِيَ تِلْكَ الَّتِي يُقَدِّمُهَا الوَلَدُ البَارُّ لِوَالِدَيْهِ وَقَدْ بَلَغَا مِنَ الكِبَرِ مَرْحَلَةً أَصْبَحَ مَعَهَا العَطْفُ عَلَيْهِمَا وَاجِبًا شَرْعِيًّا، وَقِيمَةً خُلُقِيَّةً عَالِيَةً، فَبَعْدَ أَنْ كَانَ جَنَاحُهُمَا يُفْرَشُ لِلْوَلَدِ الصَّغِيرِ هَاهُمَا قَدْ عَادَا إِلَى حَالٍ مِنَ الضَّعْفِ؛ وَجَبَ مَعَهَا عَلَى الوَلَدِ أَنْ يَفْرِشَ جَنَاحَهُ لَهُمَا، فَهَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ] وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)[([4])، ثُمَّ - يَا أَخِي - إِنَّكَ عِنْدَمَا تَحْـتَرِمُ الكَبِيرَ تَكُونُ بِذَلِكَ مُبَجِّـلاً للهِ تَعَالَى وَمُعَظِّمًا، لأَنَّ إِجْلالَ الكَبِيرِ مِنْ إِجْلالِ اللهِ؛ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ r : ((إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْـبَةِ المُسلِمِ))، وَلَقَدْ أَكَّدَ النَّبِيُّ r احتِرَامَ الكَبِيرِ وَتَقْدِيمَهُ فِي الأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالمَجْـلِسِ وَالعَطِيَّةِ؛ فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللهِ r قَالَ: ((أَرَانِي فِي المَنَامِ أَتَسَوَّكُ بِسِوَاكٍ؛ فَجَاءَنِي رَجُلانِ أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الآخَرِ، فَنَاوَلْتُ السِّوَاكَ الأَصْغَرَ مِنْهُمَا؛ فَقِيلَ لِي: كَبِّرْ؛ فَدَفَعْـتُهُ إِلَى الأَكْبَرِ مِنْهُمَا))، إِنَّ لَدَى الكَبِيرِ خِبْرَةً وَاسِعَةً بِالحَيَاةِ، وَمَعَارِفَ تَرَاكَمَتْ عَبْرَ السِّنِينَ فَصَقَلَتْهَا الأَيَّامُ وَالتَّجَارِبُ، وَهَذَّبَتْهَا المَوَاقِفُ وَالتَّفَاعُلاتُ، فَإِذَا وَضَعْتَ لَهُ مَسَاحَةً لِيُشَارِكَكَ فِي الرَّأْيِ، مُستَشِيرًا أَوْ مُستَفِيدًا، فَإِنَّ ذَلِكَ خُلُقٌ حَمِيدٌ، وَحِكْمَةٌ تَجِدُ آثَارَهَا فِي قَرَارَاتِكَ وَآرَائِكَ، وَتَجِدُ بَرَكَتَهَا فِي حَيَاتِكَ. وَمِنَ الآدَابِ أَنْ تُقَدِّمَ الكَبِيرَ فِي مَوَاطِنِ الاحتِرَامِ وَالتَّقْدِيرِ، فِي الأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَالدُّخُولِ وَالخُرُوجِ، وَتَضَعَ لَهُ فِي المَجْـلِسِ المَكَانَ الَّذِي يَلِيقُ بِسِنِّهِ وَخِبْرَتِهِ فِي الحَيَاةِ؛ لأَنَّ النَّبِيَّ r يَقُولُ: ((أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ))، وَقَدْ طَبَّـقَ النَّبِيُّ r ذَلِكَ، وَطَبَّـقَهُ صَحَابَتُهُ الكِرَامُ، فَفِي يَوْمٍ مِنَ الأَيَّامِ جَاءَ وَفْدُ عَبْدِ قَيْسٍ إِلَى النَّبِيِّ r لِزِيَارَتِهِ؛ فَفَرِحَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُم - بِزِيَارَتِهِمْ، وَوَسَّعُوا لَهُمُ المَكَانَ حَتَّى جَلَسُوا قَرِيبًا مِنْ رَسُولِ اللهِ r، فَقَالَ النَّبِيُّ r : ((مَنْ سَيِّدُكُمْ وَزَعِيمُكُمْ؟))؛ فَأَشَارُوا جَمِيعًا إِلَى المُنْذِرِ بْنِ عَائِذٍ، وَكَانَ مِنْ عَادَةِ العَرَبِ أَنْ يُقَدِّمُوا الكَبِيرَ فِي السِّنِّ، فَقَامَ المُنْذِرُ وَوَسَّعَ لَهُ القَوْمُ حَتَّى جَلَسَ عَلَى يَمِينِ رَسُولِ اللهِ r ، فَرَحَّبَ بِهِ وَلَطَفَ بِهِ وَسَأَلَهُ عَنْ بِلادِهِمْ، وَفِي يَوْمٍ مِنَ الأَيَّامِ جَاءَ سَائِلٌ يَسْـأَلُ السَّـيِّدَةَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - طَعَامًا أَوْ مَالاً فَأَعْطَتْهُ، ثُمَّ جَاءَهَا رَجُلٌ ذُو هَيْبَةٍ وَسِنٍّ فَأَجْـلَسَتْهُ حَتَّى أَكَلَ ثُمَّ انْصَرَفَ، فَلَمَّا سُئِلَتْ عَنْ ذَلِكَ قَالَتْ: ((أُمِرنَا أَنْ نُنْزِلَ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ)).

احبتى فى اللهِ:
إِنَّ فِي تَفَاصِيلِ الحَيَاةِ أُمُورًا يَتَقَدَّمُ فِيهَا صَاحِبُ العِلْمِ وَالخِبْرَةِ وَالمَعْرِفَةِ عَلَى غَيْرِهِ، إِذْ إِنَّ التَّخَصُّصَ يَفْرِضُ ذَلِكَ، لَكِنَّ هَذَا لا يَعْـنِي إِسَاءَةَ الأَدَبِ مَعَ الكَبِيرِ، بَلْ لا بُدَّ مِنَ التَّلَطُّفِ فِي القَولِ، وَالجَمَالِ فِي الخُلُقِ، وَمُرَاعَاةِ فَوَارِقِ العُمُرِ فِي أُسْلُوبِ الخِطَابِ وَالتَّعَامُلِ، لأَنَّ الكَبِيرَ فِي النِّهَايَةِ إِذَا تَسَاوَى مَعَكَ فِي العِلْمِ وَالمَعْرِفَةِ وَالخِبْرَةِ وَجَبَ تَقْدِيمُهُ أَدَبًا وَاحْـتِرَامًا؛ لأَنَّهُ يَفُوقُ غَيْرَهُ بِمِيزَةٍ أُخْرَى وَهِيَ الكِبَرُ، فَفِي الصَّلاةِ مَثَلاً يَقُولُ النَّبِيُّ r : ((يَؤُمُّ القَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي القِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْـلَمُهُمْ بِالسُّـنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّـنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَكْبَرُهُمْ سِنًّا))، بَلْ إِنَّ هَذَا يُرَاعَى حَتَّى فِي الصُّفُوفِ خَلْفَ الإِمَامِ لِتَكُونَ الصَّلاةُ بِنِفْسِهَا صُورَةً مِنْ صُوَرِ احتِرَامِ الصَّغِيرِ لِلْكَبِيرِ، وَلَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ r حَرِيصًا عَلَى غَرْسِ هَذِهِ الآدَابِ فِي صَحَابَتِهِ، وَتَعْـلِيمِهِمْ إِيَّاهَا عَمَلاً وَتَطْبِيقًا، وَمِنَ التَّوقِيرِ لِلْكَبِيرِ أَنْ تُقَدِّمَهُ فِي الكَلامِ إِذَا حَضَرَ، وَتَبْدَأَهُ بِالسَّلامِ إِذَا رَأَيْـتَهُ، فَفِي يَوْمٍ جَاءَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ إِلَى النَّبِيِّ r وَهُمْ مُحَيَّصَةُ وَحُوَيَّصَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَبَدَأَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِالكَلامِ؛ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ r : ((كَبِّرْ كَبِّرْ)) أَيْ لِيَتَكَلَّمِ الأَكْبَرُ سِنًّا، وَهَكَذَا تَتَجَلَّى صُوَرُ احتِرَامِ الصَّغِيرِ لِلْكَبِيرِ فِي الإِسْلامِ، وَتَتَأَكَّدُ لِتُصْبِحَ جُزْءًا مِنْ أَخْلاقِ المُسلِمِ مَعَ النَّاسِ مِنْ مُخْتَلَفِ الأَجْـنَاسِ.
فَاتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ -، وَكُونُوا عَلَى هَذَا الأَدَبِ فِي مُعَامَلَةِ الكَبِيرِ، عَوِّدُوا ذَلِكَ أَنْفُسَكُمْ، وَرَبُّوا عَلَيْهِ أَبْـنَاءَكُمْ، وَدَاوِمُوا عَلَيْهِ تَطْبِيقًا فِي مُخْتَلَفِ تَفَاصِيلِ حَيَاتِكُمْ؛ تَفُوزُوا بِرِضَا رَبِّـكُمْ.
أقُولُ قَوْلي هَذَا   وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ   لي وَلَكُمْ،   فَاسْتغْفِرُوهُ   يَغْفِرْ لَكُمْ    إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ،  وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ   إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.


([1]) سورة آل عمران / 102 .
([2]) سورة الروم / 54 .
([3]) سورة الإسراء / 70 .
([4]) سورة الإسراء / 23-24 .